كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما العربي الذي عاش في حاضرة مثل مكة، ومكة بما لها من مكانة كانت تستقبل أغرابًا كثيرين؛ ولذلك كان أهل مكة يأخذون الوليد فيها لينقلوه إلى البادية؛ حتى لا يسمع إلا اللغة العربية الفصيحة، وحتى لا يحتاج إلى من يضبط لسانه على لغة العرب الصافية.
ولنقرِّبْ هذا الأمر، ولننظر إلى أن هناك في حياتنا الآن لغتين: لغة نتعلمها في المنازل والشوارع ونتخاطب بها، وتسمى اللغة العامية، ولغة أخرى نتعلمها في المدارس، وهي اللغة المصقولة المميزة بالفصاحة والضبط.
وكان أهل مكة يرسلون أبناءهم إلى البادية لتلتقط الأذن الفصاحة، وكانت اللغة الفصيحة هي العامية في البادية، ولم يكن الطفل في البادية يحتاج إلى معلم ليتعلمها؛ لأن أذنه لا تسمع إلا الفصاحة.
وكانت هذه هي اللغة التي يتفوق فيه إنسان ذلك الزمان كملكة، وهي تختلف عن اللغة التي نكتسبها الآن، ونصقلها في مدارسنا، وهي لغة تكاد تكون مصنوعة، فما بالنا بالذين لم يتعلموا العربية من قبل من المستشرقين، ويتعلمون اللغة على كِبَر.
وهؤلاء لم يمتلكوا صفاء اللغة، لذلك حاولوا أن يطعنوا في القرآن، وادعى بعض أغبيائهم أن في القرآن لحنًا، قالوا ذلك وهم الذين تعلموا اللغة المصنوعة، رغم أن من استقبلوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الفصاحة، لم يجدوا في القرآن لحنًا، ولو أنهم أخذوا لحنًا على القرآن في زمن نزوله؛ لأعلنوا هذا اللحن؛ لأن القرآن نزل باللغة الفصيحة على أمة فصيحة، بليغة صناعتها الكلام.
ولأمرٍ ما أبق الله سبحانه صناديد قريش وصناديد العرب على كفرهم لفترة، ولو أن أحدًا منهم اكتشف لحنًا في القرآن لأعلنه.
وذلك حتى لا يقولن أحد أنهم قد آمنوا فستروا على القرآن عيوبًا فيه. ولو كان عند أحدهم مَهْمَزٌ لما منعه كفره أن يبين ذلك، فهل يمكن لهؤلاء المستشرقين الذين عاشوا في القرن العشرين أن يجدوا لحنًا في القرآن، وهم لم يمتلكوا ناصية اللغة ملكة، بل تعلموها صناعة، والصنعة عديمة الإحساس الذوقي.
ومثال ذلك: عدم فهم هؤلاء لأسرار اللغة في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فالحق سبحانه يقول: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111].
أي: أن كل واحد من الذين صدَّقوا أو من الذين كذَّبوا، له توفية في الجزاء، للطائع الثواب؛ وللعاصي العقوبة.
وكلمة إنَّ كما نعلم هي في اللغة حرف توكيد في مقابلة مَنْ ينكر ما يجيء بعدها.
والإنكار كما نعلم مراحل، فإذا أردت أن تخبر واحدًا بخبر لا يعلمه، فأنت تقول له مثلًا: زارني فلان بالأمس.
وهكذا يصادف الخبر ذهن المستمع الخالي، فإن قال لك: لكن فلانًا كان بالأمس في مكان آخر، فأنت تقول له: إن فلانًا زارني بالأمس.
وحين يرد عليك السامع: لكنني قابلت فلانًا الذي تتحدث عنه أمس في المكان الفلاني.
وهنا قد تؤكد قولك: والله لقد زارني فلان بالأمس.
إذن: فأنت تأتي بالتوكيد على حَسْب درجة الإنكار.
وحين يؤجل الحق سبحانه العذاب لبعض الناس في الدنيا، قد يقول غافل: لعل الله لم يعد يعذِّب أحدًا.
ولذلك بيَّن الحق سبحانه مؤكدًا أن الحساب قادم، لكل من الطائع والمصدِّق، والعاصي المكذِّب، فقال سبحانه: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111].
والذين لم تستقم لهم اللغة كملكة، كالمستشرقين، وأخذوها صناعة، توقفوا عند هذه الآية وقالوا: لماذا جاء بالتنوين في كلمة كلًا؟
وهم لم يعرفوا أن التنوين يغني عن جملة، فساعة تسمع أو تقرأ التنوين، فاعلم أنه عِوَضٌ عن جملة، مثل قول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 83- 84].
وكلًا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجز أن كلًا من الطائع المؤمن، والعاصي الكافر، سوف يلقى جزاءه ثوابًا أو عقابًا.
أما قوله سبحانه: {لَّمَّا} في نفس الآية، فنحن نعلم أن لما تستعمل في اللغة بمعنى الحين والزمان مثل قول الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143].
ومثل قوله سبحانه: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94].
أي حين فصلت العير وخرجت من مصر قال أبوهم: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94].
ولما تأتي أيضًا للنفي مثل قوله سبحانه: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
أي: أن الإيمان لم يدخل قلوبهم بعد، وتحمل كلمة لما الإذن بأن الإيمان سوف يدخل قلوبهم بعد ذلك.
وحين تستخدم كلمة لما في النفي تكون حرفًا مثلها مثل كلمة لم، ولكنها تختلف عن لم لأن لم تجزم الفعل المضارع، ولا يتصل نفيها بساعة الكلام، بل بما مضى، وقد يتغير الموقف. أما لما فيتصل نفيها إلى وقت الكلام، وفيها إيذان بأن يحدث ما تنفيه.
وهكذا نفهم أن قول الحق سبحانه: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111].
أي: أن كلًا من الطائع والعاصي سيوفَّى حسابه وجزاؤه ثوابًا أو عقابًا، حين يأتي أجل التوفية، وهو يوم القيامة.
وقد جاءت لما لتخدم فكرة العقوبة التي كانت تأتي في الدنيا، وشاء الله سبحانه أن يؤجل العقوبة للكافرين إلى الآخرة، وأنسب حرف للتعبير عن ذلك هو لما.
وحين تقرأ: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} تجد اللام، وهي لام القسم بأن الحق سبحانه سيوفيهم حسابهم إن ثوابًا أو عقابًا.
والله سبحانه بما يفعل العباد خبير، هو سبحانه يعلم أفعال العبد قبل أن تقع، ولكنها حين تقع لا يمكن أن تُنسَى أو تذهب أدراج الرياح؛ لأن من يعلمها هو الخبير صاحب العلم الدقيق، والخبير يختلف عن العالِم الذي قد يعلم الإجماليات، لكن الخبير هو المدرَّب على التخصص.
ولذلك غالبًا ما تأتي كلمتا اللطيف والخبير معًا؛ لأن الخبير هو من يعلم مواقع الأشياء، واللطيف هو من يعرف الوصول إلى مواقع تلك الأشياء.
ومثال هذا: أنك قد تعرف مكان اختباء رجل في جبل مثلًا، هذه المعرفة وهذه الخبرة لا تكفيان للوصول والنفاذ إلى مكانه، بل إن هذا يحتاج إلى ما هو أكثر، وهو الدقة واللطف.
والحق سبحانه جاء بهذا الحديث عن موسى عليه السلام ليسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن بعضًا من الكافرين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام قالوا: ما دام الله يأتي بالعذاب ليبيد من يكفرون برسله، فلماذا لا يأتي لنا العذاب؟
ولهذا جاء ما يخبر هؤلاء بأن الحق سبحانه سيوقع العقوبة على الكافرين، لا محالة، فإياك أن يخادعوك يا رسول الله في شيء، أو يساوموك على شيء، مثلما قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة.
وقد سبق أن قطع الحق سبحانه هذا الأمر بأن أنزل: {قُلْ يا أيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 1- 4].
وهذا هو قطع العلاقات التام في تلك المسألة التي لا تقبل المساومة، وهي العبادة.
ونحن نعلم أن العبادة أمر قلبي، لا يمكن المساومة فيه، وقطع العلاقات في مثل هذا الأمر أمر واجب؛ لأنه لا يمكن التفاوض حوله؛ فهي ليست علاقات ظرف سياسي، ولكنه أمر ربَّاني، يحكمه الحق سبحانه وحده.
وقول الحق سبحانه: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 2- 4].
هذا القول الكريم يشعر من يسمعه ويقرؤه أنهم سيظلون على عبادة غير الله، وأن محمدًا سيظل على عبادة الله، وأن كلمة الله ستعلو؛ لأن الحق سبحانه يأتي بعد سورة الكافرين بقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1- 3].
وهنا يقول الحق سبحانه: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ}
والاستقامة معناها: عدم الميل أو الانحراف ولو قيد شعرةٍ وهذا أمر يصعب تحقيقه؛ لأن الفاصل بين الضدين، أو بين المتقابلين هو أدق من الشعرة في بعض الأحيان.
ومثال ذلك: حين ترى الظل والضوء، فأحيانًا يصعد الظل على الضوء، وأحيانًا يصعد الضوء على الظل، وسنجد صعوبة في تحديد الفاصل بين الظل والنور، مهما دقت المقاييس.
وهكذا يصبح فصل الشيء عن نقيضه صعبًا، ولذلك فالاستقامة أمر شاق للغاية.
وساعة أن نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها».
ولولا أن قال الحق سبحانه في كتابه الكريم: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16].
فلولا نزول هذه الآية لتعب المسلمون تمامًا، وقد أنزل الحق سبحانه هذا القول بعد أن قال: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102].
وعزَّ ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الحق سبحانه ما يخفف به عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن قال سبحانه: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16].
إذن: فالأمر بالاستقامة هو أمر بدقة الأداء المطلوب لله أمرًا ونهيًا، بحيث لا نميل إلى جهة دون جهة.
وهكذا تطلب الاستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة.
ويقول الحق سبحانه: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112].
وهذا إيذان بألاَّ ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقوف صناديد قريش أمام دعوته صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم سيتساقطون يومًا بعد يوم.
وقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
يعني ألا نتجاوز الحد، فالطغيان هو مجاوزة الحد.
وهكذا نعلم أن الإيمان قد جعل لكل شيء حدًّا، إلا أن حدود الأوامر غير حدود النواهي؛ فالحق سبحانه إن أمرك بشيء، فهو يطلب منك أن تلتزمه ولا تتعده.
وقال الحق سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
وهذا القول في الأوامر، أما في النواهي فقد قال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187].
أي: أن تبتعد عنها تمامًا.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه».
وحين ينهانا الحق سبحانه عن الاقتراب من شيء فهذه هي استقامة الاحتياط، وهي قد تسمح لك بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلًا فيه، فمثلًا عند تحريم الخمر، جاء الأمر باجتنابها أي: الابتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى لا يجتمع المسلم هو والخمر في مكان.
وجعل الحق سبحانه أيضًا الاستقامة في مسائل الطاعة، وهو سبحانه يقول: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا} [الأنعام: 141].
والنهي عن الإسراف هنا؛ ليعصمنا الحق سبحانه من لحظة نتذكر فيها كثرة ما حصدنا، ولكننا لا نجد ما نقيم به الأود فقد يسرف الإنسان لحظة الحصاد لكثرة ما عنده، ثم تأتي له ظروف صعبة فيقول: «يا ليتني لم أُعْطِ». وهكذا يعصمنا الحق سبحانه من هذا الموقف.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل»؛ لأن الدين قوي متين، و«لن يشاد الدين أحد إلا غلبه».
وهكذا نجد الحق سبحانه ونجد رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بنا، والله لا يريد منا عدم الطغيان من ناحية المحرمات فقط، بل من ناحية الحلِّ أيضًا، فيوصينا سبحانه بالرفق واللين والهوادة، وأن يجعل الإنسان لنفسه مُكْنة الاختيار.
ومثال ذلك: أن يلزم الإنسان نفسه بعشرين ركعة كل ليلة، وهو يلزم نفسه بذلك نذرًا لله تعالى في ساعة صفاء، لكنه حين يبدأ في مزوالة ذلك القدر يكتشف صعوبته، فتكرهه نفسه.
ولذلك يأمرنا الحق سبحانه بالاستقامة وعدم الطغيان؛ استقامة في تحديد المأمور به والمنهي عنه؛ ولذلك كان الاحتياط في أمر العبادات أوسع لمن يطلب الاستقامة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيِّن، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».
ولذلك يطلب الشارع الحكيم سبحانه منا في الاحتياط أن نحتاط مرة بالزيادة، وأن نحتاط بمرة بالنقص، فحين تصلي خارج المسجد الحرام، يكفيك أن تكون جهتك الكعبة، أما حين تصلي في المسجد الحرام، فأنت تعلم أن الكعبة قسمان: قسم بنايته عالية، وقسم اسمه الحطيم وهو جزء من الكعبة، لكن نفقتهم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قصرت؛ فلم يبنوه.
لذلك فأنت تتجه ببصرك إلى البناء العالي المقطوع بكعبيته، وهذا هو الاحتياط بالنقص.
أما الاحتياط بالزيادة، فمثال ذلك: هو الطواف، وقد يزدحم البشر حول الكعبة، ولا تسمح ظروفك إلا بالطواف حول المسجد.
وهكذا يطول عليك الطواف، لكنه طواف بالزيادة فعند الصلاة يكون الاحتياط بالنقص، أما عند الطواف فيكون الاحتياط بالزيادة.
وهكذا نجد الاحتياط هو الذي يحدد معنى الاستقامة.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
وفي الآية السابقة قال سبحانه: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111].
وعلمنا معنى الخبير، أما المقصود بالبصير هنا فهو أنه سبحانه يعلم حركة العبادة؛ لأن حركة العبادة مرئية.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ}
والكافرون كما نعلم قد عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة، وأن يعبدوا هم الله سنة، ولكن الحق سبحانه قطع وفصل في هذا الأمر.
ويأتي هنا توكيد هذا الأمر؛ فيقول سبحانه: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ} [هود: 113].
والركون هو الميل والسكون والمودة والرحمة، وأنت إذا ركنت للظالم؛ أدخلت في نفسه أن لقوته شأنًا في دعوتك.
والركون أيضًا يعني: المجاملة، وإعانة هذا الظالم على ظلمه، وأن تزِّين للناس ما فعله هذا الظالم.
وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم، والاستشراء فيه. وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم؛ وأن تزين للناس هذا الظلم.
وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كله لوجدت آن آفات المجتمعات الإنسانية إنما تنشأ من الركون إلى الظالم؛ لكنك حين تبتعد عن الظالم، وتقاطعه أنت ومن معك؛ فلسوف يظن أنك لم تُعرْض عنه إلا لأنك واثق بركن شديد آخر؛ فيتزلزل في نفسه؛ حاسبًا حساب القوة التي تركن إليها؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه؛ وفي هذا عزلة له وردع؛ لعله يرتدع عن ظلمه.
والركون للظالم إنما يجعل الإنسان عرضة لأن تمسه النار بقدر آثار هذا الركون؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود: 113].
فأنتم حين تركنون إلى ظالم إنما تقعون في عداء مع منهج الله؛ فيتخلى الله عنكم ولا ينصركم أحد؛ لأنه لا وليَّ ولا ناصر إلا الله تعالى. اهـ.